المقدمة: تخضع منظومة الصفقات العمومية في موريتانيا اليوم لتشخيص شامل تمهيدًا لمراجعة النصوص القانونية والتنظيمية. غير أن هذا التشخيص يضعنا أمام إشكالية بنيوية: كيف نوازن بين الرقابة القبلية الصارمة كضمانة للنزاهة والشفافية، وبين الحاجة إلى نجاعة وسرعة في الإبرام والتنفيذ كشرط أساسي للتنمية؟
فالرقابة القبلية المطلقة قد تتحول إلى سلاح ذي حدين؛ إذ تحمي المال العام من الانحرافات، لكنها في الوقت نفسه قد تُقيد المبادرة وتُبطئ المشاريع الحيوية. ومن جهة أخرى، فإن تقييد صلاحيات السلطات المتعاقدة في مجال الإبرام والتنفيذ قد يفرغ الإصلاح من مضمونه، محولًا الصفقات إلى مساطر شكلية بعيدة عن جوهر الحكامة الرشيدة.
أولًا: الرقابة القبلية – بين الضمانة والعائق
الإطار القانوني الحالي (القانون 024–2021) رسّخ الرقابة القبلية كأداة أساسية لحماية المال العام. لكن السؤال المطروح: هل يكفي النص القانوني لتحقيق التوازن بين الردع والفعالية؟
إن الإفراط في الطابع الشكلي للرقابة قد يُنتج عرقلة أكثر مما يضمن الحماية، بينما المطلوب هو رقابة مرنة، تستند إلى آجال واضحة ومعايير دقيقة، دون أن تتحول إلى وصاية شاملة على السلطات المتعاقدة.
ثانيًا: اللجنة الوطنية للرقابة – سلطة معنوية أم مؤسسة مقيدة؟
تلعب اللجنة الوطنية للرقابة دورًا رقابيًا وإرشاديًا في آن واحد. غير أن إشكاليتها تكمن في طبيعة صلاحياتها: فآراؤها غير ملزمة قانونيًا، لكنها تحظى بنسبة امتثال تفوق 95%.
هل هذا الامتثال علامة على قوة مؤسسية، أم على هشاشة السلطات المتعاقدة وعجزها عن تحمل المسؤولية في غياب توجيه مركزي؟
ثالثًا: العتبات المالية – غياب التعريف أم غموض مقصود؟
يشكّل غياب تعريف دقيق للعتبات المالية ثغرة تُفتح أمام التأويلات. فهل هو مجرد نقص تشريعي أم مقصود لإبقاء هامش سلطة تقديرية واسعة؟
الإشكال هنا أن غموض العتبات يُضعف فعالية الرقابة، ويجعل السلطات المتعاقدة رهينة لتفسيرات متباينة، بدل أن تكون أمام معايير موضوعية ومحدثة تعكس خصوصيات القطاعات وحجم المشاريع.
رابعًا: الكفاءة التقنية – بين النص والواقع
القانون لا يمنع الاستعانة بخبرات مؤهلة، لكن التطبيق غالبًا ما ينحصر في تمثيل إداري أو تسميات شكلية. والسؤال: كيف نضمن أن اللجان مشكلة من كفاءات تقنية حقيقية وليست مجرد واجهات إدارية؟
غياب الكفاءة يفرغ الرقابة من مضمونها، ويجعلها مجرد إجراء شكلي يفتقد القدرة على حماية المال العام أو رفع جودة الإبرام.
خامسًا: التكيّف القطاعي – نظام موحد لواقع متعدد؟
هل يمكن لنظام موحّد أن يستجيب لقطاعات مختلفة كالصحّة، التعليم، أو الجماعات المحلية؟
الإشكال أن صرامة النصوص تصطدم بخصوصيات الواقع: قطاع الصحة يتطلب مرونة استثنائية لحاجياته الاستعجالية، بينما الجماعات المحلية تحتاج تبسيطًا إداريًا يتناسب مع ضعف مواردها. التحدي إذن: كيف نُصمم منظومة تستجيب للتعدد دون أن تتحول إلى فوضى تشريعية؟
|