(5).jpg) تُعدّ الصفقات العمومية إحدى الأدوات الأساسية لضمان الشفافية وحسن استخدام المال العام، إذ تُمثّل الإطار القانوني والتنظيمي الذي يُجسّد العلاقة بين الإدارة والمقاول أو المورد أو الاستشاري.
غير أنّ الممارسة اليومية تُظهر وجود لبسٍ شائعٍ في فهم وتأويل بعض الإجراءات القانونية والتنظيمية، وخاصة ما يتعلق بصحة العقود وبالآثار المترتبة على عدم استيفاء بعض الاشكالات مثل التسجيل والمصادقة.
ومن بين الإشكالات العملية المتكرّرة في هذا السياق، مسألة ما إذا كان عدم تسجيل العقود لدى إدارة التسجيل يؤدي إلى بطلانها.
ولمعالجة هذا اللبس، لا بد من التمييز بين ما هو إجراء شكلي مالي وما هو شرط جوهري قانوني.
أولًا: المرجع القانوني والبطلان المطلق
تنص مدونة الصفقات العمومية – ولا سيما المادة (69) من المرسوم رقم 2022-083 المطبّق للقانون رقم 2021-024، والمادة (3) من المرسوم رقم 2022-085 المتعلّق بسير عمل لجنة رقابة الصفقات العمومية – على ما مفاده ما يلي:
> كل صفقة عمومية لم تتم المصادقة عليها من طرف اللجنة المختصة والوزير الوصي، وعند الاقتضاء بعد الحصول على الرأي الإلزامي المسبق للجنة الرقابة على الصفقات العمومية، تعتبر باطلة بطلانًا مطلقًا.
يتبيّن من هذا النص أن البطلان المطلق لا يرتبط بعدم التسجيل الضريبي للعقد، بل بغياب المصادقة القانونية من الجهات المختصة.
فالتسجيل لا يُعدّ سوى إجراءٍ ماليٍ وضريبيٍ يهدف إلى تحصيل الرسوم وإضفاء الطابع الرسمي على العقد، بينما الصحة القانونية للعقد تُستمد من اكتمال المساطر الإدارية والرقابية المنصوص عليها في القانون.
ثانيًا: مفهوم العقد وتمييز أنواعه
يُطرح هنا سؤال جوهري: ما هو مفهوم العقد في السياق الإداري والمالي؟
العقد المبرم من طرف السلطات المتعاقدة، في جوهره، هو اتفاق معاوضة بين طرفين، يلتزم أحدهما بتقديم خدمة أو إنجاز عمل محدد في الزمان والمكان مقابل عوض مالي.
ويُطلق على هذه الفئة عقود المعاوضة، وهي المعنية أساسًا في إطار الصفقات العمومية.
غير أنّ هناك أيضًا عقود اكتتاب أو انتقاء تتعلّق بمشاركة متعاملين اقتصاديين في تنفيذ مهام أو خدمات عمومية.
وهذه العقود – شأنها شأن الصفقات العمومية – يجب أن تراعي مبدأ المساواة والشفافية والتنافسية، باعتبارها مبادئ دستورية تضمن تكافؤ الفرص بين المواطنين والمتعاملين الاقتصاديين.
ومع ذلك، فإنّ القانون يسمح في بعض الحالات باستثناءات محدودة تُمليها المصلحة العامة، مثل التعيينات الخاصة أو محدودية الكفاءات المتخصصة، شريطة أن تتم هذه الاستثناءات وفق المساطر القانونية الدقيقة التي تجعل من المصلحة العامة البوصلة الأساسية لصرف المال العام.
و يُفرّق القانون الموريتاني، شأنه شأن التشريعات المقارنة، بين عقود المعاوضة (les contrats à titre onéreux) والعقود المجانية (les contrats à titre gratuit).
ففي حين تقوم عقود المعاوضة على تبادل المنفعة المالية أو الاقتصادية بين الطرفين، بحيث يحصل كلّ طرف على مقابل محدّد لقاء التزامه، فإن العقود المجانية تُبرم دون مقابل مالي مباشر، وغالبًا ما تُعبّر عن نية التبرّع أو الإحسان.
وفي هذا الإطار، تُعتبر الصفقات العمومية بطبيعتها عقود معاوضة، لأنها ترتكز على مبدأ تبادل المنفعة بين الإدارة العمومية والمتعامل الاقتصادي؛
أما العقود المجانية، مثل الهبات أو التبرعات أو الاتفاقيات غير التجارية، فهي لا تخضع لأحكام المرسوم رقم 2022-083، بل تُدار وفقًا للنصوص المدنية أو الخاصة، لأنها لا تندرج ضمن نطاق الصفقات العمومية التي تنطوي على مقابل مالي من المال العام.
ثالثًا: الإطار المالي للصفقات العمومية الخاضعة للترقيم الوطني من طرف لجنة رقابة الصفقات العمومية
تُميّز النصوص التنظيمية الموريتانية بين الصفقات فوق العتبة والنفقات تحت العتبة، وذلك استنادًا إلى مقرر الوزير الأول رقم 292 المتعلق باعتماد دليل الإجراءات المطبَّق على النفقات الواقعة تحت عتبة اختصاص لجان الصفقات العمومية.
وقد حدّد المرسوم رقم 2022-083 المطبِّق لأحكام القانون رقم 2021-024 المتعلق بمدونة الصفقات العمومية، وكذا المرسوم رقم 2023-054 و المقرر رقم 292 الأنف الذكر، أن الصفقة العمومية الخاضعة للترقيم هي:
> كل عقد معاوضة يفوق مبلغه ستمائة ألف (600.000) أوقية جديدة، شاملةً للضرائب والرسوم، يُبرم بين سلطةٍ متعاقدةٍ ومتعهّدٍ اقتصادي (مقاول، مورد، أو استشاري) مقابل تنفيذ أشغال أو توريدات أو خدمات فكرية أو غير فكرية.
وبناءً على ذلك، فإنّ الأشغال أو التوريدات التي يقل مبلغها عن هذا الحدّ لا تُعدّ "صفقات" بالمعنى القانوني الدقيق، وإنما نفقات تحت العتبة، تخضع لإجراءات مبسطة تقع تحت مسؤولية الآمر بالصرف، دون المرور باللجان الخاصة المكلّفة باقتراح المنح المؤقت للصفقات.
أما العقود التي تفوق مبلغ 600.000 أوقية جديدة، فهي التي تخضع لنظام ترقيم الصفقات العمومية، والذي يستوجب ما يلي:
المصادقة من طرف الآمر بالصرف بالنسبة للصفقات الصغيرة، بعد اقتراح مسبق من اللجنة الخاصة، طبقًا لأحكام المقرر رقم 292؛
مصادقة لجنة الصفقات العمومية المختصة والوزير الوصي بالنسبة للصفقات الواقعة ضمن اختصاص لجان الصفقات العمومية؛
وفي بعض الحالات، الرأي الإلزامي للجنة الوطنية لرقابة الصفقات العمومية (CNCMP)، وفقًا لأحكام المرسوم رقم 2022-085.
رابعًا: دور التسجيل وإشكالية البطلان
إنّ التسجيل لدى إدارة التسجيل والدمغات يُعدّ إجراءً ضريبيًا وماليًا، وليس شرطًا قانونيًا لتكوين العقد.
فهو يهدف إلى:
تحصيل الرسوم والضرائب المستحقة؛
إضفاء الطابع الرسمي والنهائي على العقد؛
وتمكين المحاسب العمومي من صرف المستحقات المالية.
وبالتالي، فإنّ عدم التسجيل لا يؤدي إلى بطلان العقد أو الصفقة، لكنه يمنع صرف المبالغ المستحقة إلى حين تسوية الوضعية الضريبية، وقد يُعرّض الأطراف إلى غرامات تأخير ورسوم إضافية.
خامسًا: الخلاصة والاستنتاج
إنّ الفهم الدقيق للعلاقة بين المساطر القانونية والإجراءات المالية يظلّ أساسًا لضمان حسن تنفيذ العقود العمومية وصيانة المال العام.
فالقانون لا يهدف إلى التعقيد أو العرقلة، بل إلى ضمان المشروعية والشفافية في كل عملية مالية وإدارية.
ومن ثمّ، فإنّ البطلان في مجال الصفقات العمومية لا يُفهم إلا في حال غياب المساطر القانونية الجوهرية، لا بسبب إغفال بعض الإجراءات الجبائية أو الشكلية.
فالمصلحة العامة تبقى دائمًا المرجع الأعلى لكل تصرف إداري ومالي.
والله اعلم |